المقدمة
تحاول هذه المقالة أن توضح أثر القرآن الکریم في تطور اللغة العربیة وآدابها،کما نعلم أنّ اللغة العربیة لم تکن موّحدة قبل نزول القرآن بل کانت لهجات متعددة تغلبت علیها لهجة قریش، ولکن کانت ذات غنیً ومرونة، ولما نزل القرآن سحر العقول ببیانه، وأعطی اللغة سیلاً من حسن السبک وعذوبة السجع، وعمل علی توحید اللغة العربیة توحیداً کاملاً وحفظ العربیة من الانقراض . وقد أتـینا في بحثنا هذا بکلام حول نشأة اللغة العربِیة وتطورها، و اسباب تکوینها وأغراضها في الجاهلیة، وبعد ذلک طرنا إلی صلب الموضوع وهو القرآن واثره في تطور اللغة العربیة و آدابها، حیث ذکرنا أثر القرآن في اللغة العربیة وأیضاً أثره في الشعر العربي وما دخله منأ ألفاظ جدیدة في اللغة، ومضامین جدیدة للشعر العربي.نشأة اللغة العربیة وتطورها
اللغة العربیة هي إحدی اللّغات السّامیّة ،وقد تباینت آراء العلماء في تعیین منشإ هذه اللغات وما قد یکون لها من الصّلة باللّغة السّامیّة الأصلیّة . والثابت أنّ بین اللغات السامیّة قرابة واضحة، و أنها جمیعاً ولیدة لغة سامیة عامّة قد بادت وصارمن المتعذّرعلینا أن نعرف شیئاً یذکرمنها،والذي نعرفه إنّما هو نتیجة مقارانات نقیمها بین شتّی الفروع. [1] ویرون أنّ صفات السامیّین العنصریّة، و منها الإیمان الشدید والتعصّب والتصوّر، تدلّ علی اصل صحراويّ یجعلونه بلاد العرب.
یری جماعة من الباحثین والمحققین أنّ العربیّة أقرب من أخواتها إلی الأصل السّامیّ وإن کانت الآرامیّة أقدم منها عهداً ؛ و قد تکون العربیّة أرقی اللّغات السامیّة وأشدّها فصاحة و إتساعاً. یذکر الفاخوري نقلاً عن الدکتورطلس حول تطور اللغة العربیّة حیث یقول:«إنّ أقدم النصوص العربیّة الفصیحة الّتي عُثر علیها ترجع إلی الفترة الّتي تمتدّ من القرن الثالث بعد المیلاد إلی القرن الخامس . وهذه النصوص هي الشعر الجاهلي ، والحکم الجاهلیّة .ولکن من یدقّق في هذه الّنصوص یجدها کاملة مهذّبة، ذات نحو متّسق وصرف منظم، و قواعد عروضیّة و شعریّة راقیة،ولا شکّ في أنّ اللّغة العربیّة قد مرّت بأطوار بعیدة العهد تطورت فیها وتدرجّت إلی هذاالکمال الّذي وجدناه في الشعر الجاهلي ثمّ في القرآن.» [2]وإذا تدبرنا تاریخ کلّ ظاهرة من مظاهر الأمة کالآداب أو اللغة أو الشرائع أوغیرها باعتبارما مرّ بها من الأحوال في أثناء نموّها وإرتقائها و تفرعها ، رأیتها تسیر في نموها سیراً خفیاً لا یشعر به إلا بعد إنقضاء الزمن الطویل .ویتخلل ذلک السیر البطئ و ثبات قویّة تأتي دفعة واحدة ، فتغیر الشؤون تغیراً ظاهراً وهو ما یعبرون عنه بالنهضة.وسبب تلک النهضات في الغالب احتکاک الأفکار بالإختلاط بین الأمم علی إثر مهاجرة إقتضتها الطبیعة من قحط أو خوف ... أو یکون سبب الإختلاط ظهور نبیّ أو متشرع أو فیلسوف کبیر أو نبوغ قائد طمّاع یحمل النّاس علی الفتح و الغزو أو أمثال ذلک من الإنقلابات السیاسیّة أوالإجتماعیّة. [3] فتتحاک الأفکار وتتمازج الطبائع، فتتنوع العادات و الأخلاق و الأدیان والآداب ،واللّغة تابعة لکلّ ذلک بل هي الحافظة لآثار ذلک التغییر فتدخرها قروناً بعد زوال تلک العادات أو الآداب أو الشرائع، و إذا تبدل شئ منها حفظت آثار تبدیله.فاللغة العربیة تعرضت لهذه الطوارئ مثل سائر اللغات الحیّة ، وتقلبت علی أحوال شتی ، فتنوعت ألفاظها بالنحت و الإبدال و القلب ، و دخلها من الألفاظ الأعجمیّة في أعصر مختلفة قبل أن تدوّن وتضبط في أزمنة لم یدرکها التاریخ.کانت اللغة العربیة قبل الإسلام لغات عدیدة تعرف بلغات القبائل ، وبینها إختلاف في اللفظ والترکیب کلغات تمیم و ربیعة و مضر وقیس و هذیل و قضاعة وغیرها کما هو مشهور ...
وأقرب هذه اللغات شبها باللغة السّامیّة الأصلیّة أبعدها عن الإختلاط . وبعکس ذلک القبائل التي کانت تختلط بالأمم الأخری کأهل الحجاز مما یلي الشام و خصوصاً أهل مکة من قریش، فقد کانوا أهل تجارة و سفر شمالاً إلی الشام و العراق و مصر و جنوباً إلی بلاد الیمن وشرقاً إلی خلیج فارس و مکا وراءه و غرباً إلی بلاد الحبشة.وفضلاً عمّا کان یجتمع حول الکعبة من الأمم المختلفة وفیهم الفرس والأنباط والیمنیّة والأحباش و المصریون ، غیر الذین کانوا ینزحون إلیها من جالیة الیهود والنصاری . فدعا ذلک إلی إرتقاء اللغة بما تولد فیها أو دخلها من الإشتقاقات و التراکیب مما لا مثیل له في اللغات الأخری. [4]اسباب تکوین اللغة العربیة الفصحی:
جاء فِي معظم کتب التاریخ أنّ اسباب تکوین اللغة الادبیة الفصحی فِي عصر ما قبل الإسلام عدیدة ولکن اشهرها تأثیراً هي :1-الأسوق :والأسواق أمکنة منتشرة في شتّی الجزیرة العربیّة کان العرب یذهبون إلیها في مواسم معیّنة لشؤون تجاریة و أدبیّة ونسبیّة و غیرها من الشؤون السیاسیّة والإجتماعیة و الأدبیّة و...فیعالجون فیها مفادیات الأسری ، والخصومات، وینصرفون إلی المفاخرة و المنافرة بالشعر والخطب في الحسب والنّسب و الکرم و الفصاحة والجمال والشجاعة،کما ینصرفون الی مسابقات الخیول و إقامة الألعاب، وتبادل عروض التجارة و غیر ذلک .فکانت تلک الأسواق إشبه بمعارض عامّة یفد إلیها الناس من مختلف انحاء الجزیرة ؛ومن أشهرها سوق عکاظ قرب مکة ،و مجنّة و ذو المجاز وکلاهما في ضواحي مکة أیضاً .
[5]وکما نعلم أن لسوق عکاظ دوراً هاماً في رقيّ اللغة العربیّة حیث کانت مکاناً للتحکیم بین الشعراء والخطباء، فیمیز الحَکمُ بین الکلام الجید من الکلام الغیر الجید ویعلن علی الحاصل علی الرتبة الاولی في السباق الأدبي .وکان الکلام فیها بلغة یفهمها الجمیع ،وکان الشاعر أو الخطیب یتوخّی الألفلظ العامّة و الأسالیب في لغة مثالیة موحّدة تروق کل سامع،ولا ینفر منها أو یستغربها أحد.فکان منثمب للأسواق أثر بلیغ في توحید اللسان وتعمیم اللغة المثالیّة.و تغلیب لغة قریش علی سائر اللغات ،لأنّ أشهر الأسواق في بلادهم.2-قریش:کانت مکة محطّاً للقوافل من زمن بعید ،وکانت موطن قریش موضع إجلال العرب لما ورثته من شرف و سؤدد و ثراء؛کما کانت مقام الکعبة یفد إلیها الحجّاج من جمیع الآفاق . فکان لقریش نصیب وافر في توحید اللغة،تهذّب لهجتها بما تأخذه من لغات القبائل الوافدة علی بلادها،مما خفّ علی اللسان و عذُب فيِ السمع؛ وکان العرب یقلّدون لسانها ، و الشعراء و الخطباء یؤثرون ما هو من ذلک اللّسان لأنّ أهمّ الأسواق کانت في قریش و المحکّمین فیها منهم أحیاناً کثیرةً؛ وکان الشّعر ینتشر من تلک الأصقاع في جمیع نواحي البلاد حاملاً إلیها لهجة قریش وأُسلوبها . وهکذا کانت اللغة المشترکة المثالیّة قریبةً من لغة قریش کلّ القرب.3- الحضارات المجاورة: نستطیع القول بجزم بآنّ عرب الجزیرة لم ینحصروا بمعزل عن تأثیرات الحضارات المتاخمة بل کانوا في احتکاک مع جیرانهم. فأضیت إلی لغة عدنان ثروة الحضارة القحطانیة وحضارة مصر وفارس و الوم والحبشة عن طریق التجارة أو طریق التنافس بین الحیرة وغسّان ، والفرس والروم من ورائهما.فکانت اللغة تواصل تطورها مکمّلةً ما ینقصها بما تأخذه من لغات تلک الحضارات الواسعة النطاق.
وهکذا وصلت اللغة العربیّة إلی عصرالأدب الجاهلي ،راقیّة ،مزودة بمحاسن لغات عدیدة وحضارات کثیرة ، تستطیع التعبیر عن کلّ شئ مهما دقَّ وسما. وتستطیع الإفصاح عن خلجات النفوس و لواعج الصدور ،وتصویر المناظر و الخواطر ،وما إن ظهر فیها القرآن الکریم حتِّی ثبّتها و عمل علی حفظها بالرُّغم من تقلّبات الأیام و أحداث الزمان.هذا ماعثرناعلیه في کتب تاریخ الادب العربي حول نشأة اللغة العربیة وتطورها،أمّا بالنسبة لأغراضها فیذکر لنا السید الهاشمي اغراضاً ثلاثة للغة في الجاهلیة وهي کما یلي:1-کانت اللغة تستعمل في أغراض المعیشة البدویّة ، ووصف مرافقها من حِلّ وترحال، و إنتجاع کلأ.واستدرار غیث،و إستنتاج حیوان.2-وفي إثارة المُنازعات والمشاحنات ، و ما یتبعها من الحضّ علی إدراک الثّأر .والتفاخر بالإنتصار ، والتباهي بکرم الأصل و النّجار.3- شرح حال المشاهدات والکیفیات و الإخبار عن الوقائع و القصص وغیر ذلک. [6]القرآن واثره في تطور اللغة العربیة و آدابها:
کان لظهور الأسلام تأثیر کبیر في تطور اللغة العربیة و أسالیبها و ألفاظها لتشرب قرائح المسلمین روح القرآن ، وحفظهم کلامه وإعجابهم به. فلا غرو أذا ظهرت أسالیب القرآن و ألفاظه في لغة المسلمین:شعراً و نثراً ، کتابةً وخطابةً. ویذکرجرجي زیدان اسباب ذلک التغییر إلی قسمین:تغییر في الإسلوب و تغییر في الألفاظ.یذکر جرجي زیدان أنّه تولّد في صدرالاسلام ضرب من الإنشاء من أبلغ ما یکون . وأحسن الأمثلة علیه مخاطبات الخلفاء والقوّاد ، وکلها من السهل الممتنع..ویقول:تجد أمثلة من المخابرات السیاسیّة و الخطب و نحوها علی إسلوب صدر الإسلام في کتب الفتوح والغزوات ، کفتوح الشام للواقدي ،وفتوح البلدان للبلاذري، ومنها جانب کبیر في خطط المقریزي عن فتوح مصر.وتجد معظمها مجموعاً في کتاب فتوح الشام للشیخ أبي إسماعیل محمد بن عبدالله الأزدي البصري من أهل أواسط القرن الثاني للهجرة طبع في کلکته سنة 1854،و قد شاهدنا فیه ما لم نشاهده في غیرها مما وصل إلینا م کتب الفتح ..فإنّه عبارة عن مجموع المخابرات السیاسیة أو الأوامر الرسمیة التي جرت بین الخلفاء الراشدین و قوادهم أو ما تکاتب به القواد أو ما کتبوه إلی کبراء الروم وغیرهم. أوما عقدوه من العهود في أثناء حروبهم في الشام إلی فتحها وفتح أجنادها .. کأنها الأصول التي أخذت أخبار الفتح عنها. [7]اثرالقرآن في تطور اللغة والأدب:
بقاء اللغة العربية حيّة الى يومنا هذا مدين دون شك للقرآن، فلولاه لبادت هذه اللغة كما بادت اللغات الاثرية القديمة. و القرآن الکریم نمط باهر معجز ببیانه و بلاغته،أعجز الجمیع علی أن یأتوا بمثله« قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ». [8]كان العرب في شمال الجزيرة العربية حين بزوغ الاسلام يتكلمون بلهجات متعددة وإن كانت لغة قريش شائعة بينهم. وكان الجنوبيون يتكلمون بلغة حمير. والقرآن نزل بلهجة قريش فوحّد شمال الجزيرة على هذه اللغة ثم توغلت لغة القرآن الى الجنوب فأصبحت الجزيرة العربية كلها تتكلّم بهذه اللغة. فالقرآن له الفضل في توحيد اللغة العربية وانتشارها و بقائها. و ظلت اللهجة القریشیّة في إنتشارها تکتسح ما یقابلها من لغات ، فاتخذتها شعوب عدیدة لساناً لها ، وأصبح لسانها الأدبي من أواسط آسيا حتى المحیط الأطلسي یعبرون به عن مشاعرهم و عقولهم ،کلّ ذلک بفضل القرآن الکریم ، الّذي حفظ العربیّة من الضیاع ، وجعلها لغة حیّة خالدة منتشرة في بعض أقطار الأرض. [9]
کما أسهم القرآن إسهاماً فعّالاً في ظهور معانٍ لم تکن معروفةً من قبل مثل:الفرقان و الکفر و الإیمان و الإشراک و الإسلام والصوم والصلاة والزکاة و الرکوع والسجود . ولم یقف الأمر عند هذه المعاني فقط، بل کان للقرآن مضمونه الذي لم یکن یعرفه العرب کالدعوة إلی عبادة الله –والبعث والعقاب و الثواب- فشرع للناس ما ینبغي أن تکون علیه حیاتهم و ما یسودهم من علاقات.ونستطیع القول بأنّ القرآن هذّب اللغة العربیّة من حواشي اللفظ وغریبه، وأضفی علیها لوناً من الطلاوة، مع وضوح القصد والوصول إلی الغرض ،فاللفظ علی قدر المعنی.من هذا النبع الصافي أخذ الأدباء ینهلون ویسیرون علی هدیه في خطبهم وأشعارهم وکل آثارهم الأدبیّة ، فهو معجمهم الأدبي واللغوي. [10]و نستطیع القول بأنّ القرآن الكريم منطلق الحركة العلمية التي نشأت حول القرآن بمرور الزمن، والدافع المحرك وراء كل النهضة العلمية التي شهدها العالم الاسلامي منذ القرن الهجري الاول.